فصل: تفسير الآية رقم (92)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي لنسألن يوم القيامة أصناف الكفرة مطلقاً المقتسمين وغيرهم سؤال تقريع وتوبيخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولاً أولياً أو لنجازينهم على ذلك، وعلى التقديرين لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏ لأن المراد هنا حسبما أشرنا إليه إثبات سؤال التقريع والتوبيخ أو المجازاة بناءاً على أن السؤال مجاز عنها وهناك نفى سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم؛ وروي هذا عن ابن عباس، وضعف هذا الإمام بأنه لا معنى لتخصيص نفي سؤال الاستفهام بيوم القيامة لأن ذلك السؤال محال عليه تعالى في كل وقت‏.‏ وأجيب بأنه بناءاً على زعمهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏ فإنه يظهر لهم في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء فلا يحتاج إلى الاستفهام، وقيل‏:‏ المراد لا سؤال يومئذٍ منه تعالى ولا من غيره بخلاف الدنيا فإنه ربما سأل غيره فيها‏.‏ ورد بأن قوله‏:‏ لأنه سبحانه عالم بجميع أعمالهم يأباه‏.‏

واختار غير واحد في الجمع أن النفي بالنسبة إلى بعض المواقف والإثبات بالنسبة إلى بعض آخر، وسيأتي تمام الكلام في ذلك، واستظهر بعضهم عود الضمير في ‏{‏لَنَسْئَلَنَّهُمْ‏}‏ إلى ‏{‏المقتسمين الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 90، 91‏]‏ للقرب، وجوز أن يعود على الجميع من مؤمن وكافر لتقدم ما يشعر بذلك من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 89‏]‏ و‏{‏مَا‏}‏ للعموم كما هو الظاهر، وأخرج ابن جرير‏:‏ وغيره وعن أبي العالية أنه قال في الآية‏:‏ يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا به المرسلين‏.‏

وأخرج الترمذي‏.‏ وجماعة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يسألون عن قول لا إله إلا الله ‏"‏ وأخرجه البخاري في تاريخه‏.‏ والترمذي من وجه آخر عن أنس مرفوعاً، وروي أيضاً عن ابن عمر‏.‏ ومجاهد، والمعنى على ما في «البحر» يسألون عن الوفاء بلا إله إلا الله والتصديق لمقالها بالأعمال، والفاء قيل لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها، وقيل‏:‏ لتعليل النهي والأمر فيما سبق، وزعم أنها الفاء الداخلة على خبر الموصول كما في قولك‏:‏ الذي يأتيني فله درهم مبني على أن ‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ وقد علمت حال ذلك، وفي التعرض لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ أي أظهره واجهر به يقال‏:‏ صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً، ومن ذلك قيل للفجر صديع لظهوره‏.‏

وجوز أن يكون أمراً من صدع الزجاجة وهو تفريق أجزائها أي افرق بين الحق والباطل، وأصله على ما قيل الإبانة والتمييز، والباء على الأول صلة وعلى الثاني سببية، و‏{‏مَا‏}‏ جوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي تؤمر به فحذف الجار فتعدى الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذف، ولعل القائل بذلك لم يعتبر حذفه مجروراً لفقد شرط حذفه بناءً على أنه يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجروراً بمثل ما جر به الموصول لفظاً ومعنى ومتعلقاً، وقيل‏:‏ التقدير فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء الثانية ثم الثالثة ثم لام التعريف ثم المضاف ثم الهاء، وهو تكلف لا داعي له ويكاد يورث الصداع، والمراد بما يؤمر به الشرائع مطلقاً، وقول مجاهد‏:‏ كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم إن المعنى اجهر بالقرآن في الصلاة يقتضي بظاهره التخصيص ولا داعي له أيضاً كما لا يخفى، وأظهر منه في ذلك ما روي عن ابن زيد أن المراد ‏{‏بِمَا تُؤْمَرُ‏}‏ القرآن الذي أوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم إياه، وأن تكون مصدرية أي فاصدع بمأموريتك وهو الذي عناه الزمخشري بقوله‏:‏ أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول، وتعقبه أبو حيان بأنه مبني على مذهب من يجوز أن يراد بالمصدر أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز‏.‏ ورد بأن الاختلاف في المصدر الصريح هل يجوز انحلاله إلى حرف مصدري وفعل مجهول أم لا إما أن الفعل المجهول هل يوصل به حرف مصدري فليس محل النزاع، فإن كان اعتراضه على الزمخشري في تفسيره بالأمر وأنه كان ينبغي أن يقول بالمأمورية فشيء آخر سهل، ثم لا يخفى ما في الآية من الجزالة، وقال أبو عبيدة‏:‏ عن رؤبة ما في القرآن منها، ويحكى أن بعض العرب سمع قارئاً يقرأها فسجد فقيل له في ذلك فقال‏:‏ سجدت لبلاغة هذا الكلام، ولم يزل صلى الله عليه وسلم مستخفياً كما روي عن عبد الله بن مسعود قبل نزول ذلك فلما نزلت خرج هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم فليست الآية منسوخة، وقيل‏:‏ هي من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا كفيناك المستهزءين‏}‏ بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم‏.‏ أخرج الطبراني في الأوسط‏.‏ والبيهقي‏.‏ وأبو نعيم كلاهما في الدلائل‏.‏ وابن مردويه بسند حسن قال‏:‏ المستهزؤون الويد بن المغيرة‏.‏ والأسود بن عبد يغوث‏.‏ والأسود بن المطلب‏.‏ والحرث بن عيطل السهمي‏.‏ والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه السلام إلى أكحله فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما صنعت شيئاً قال‏:‏ كفيتكه، ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عينيه فقال‏:‏ ما صنعت شيئاً قال‏:‏ كفيتكه، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال‏:‏ ما صنعت شيئاً قال‏:‏ كفيتكه؛ ثم أراه الحرث فأومأ إلى بطنه فقال‏:‏ ما صنعت شيئاً قال‏:‏ كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال‏:‏ ما صنعت شيئاً قال‏:‏ كفيتكه‏.‏ فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول‏:‏ يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون‏:‏ ما نرى شيءاً فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها؛ وأما الحرث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته، وقال الكرماني في «شرح البخاري»‏:‏ إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم‏:‏ عمرو بن هشام‏.‏ وعتبة بن ربيعة‏.‏ وشيبة بن ربيعة‏.‏ والوليد بن عتبة‏.‏ وأمية بن خلف‏.‏ وعقبة بن معيط، وعمارة بن الوليد، وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر‏.‏ وفي «الدر المنثور» وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم وأسمائهم وكيفية هلاكهم، وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود‏.‏ وتعقبه في «البحر» بأن هباراً أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم، وهذا متعين إذا كانت كفايته عليه السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر، وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال‏:‏ ولا حاجة إلى شيء من ذلك، والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ أي اتخذوا إلهاً يعبدونه معه تعالى، وصيغة الاستقبال لاستحضار الحال الماضية، وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهوين للخطب عليه عليه الصلاة والسلام بالإشارة إلى أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم بل اجترؤا على العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ما يأتون ويذرون‏.‏ وفيه من الوعيد ما لا يخفى‏.‏

وفي «البحر» أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ من كلمات الشرك والاستهزاء، وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية‏.‏ وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبساً بحمده أي قل‏:‏ سبحان الله والحمد لله أو فنزهه عما يقولون حامداً له سبحانه على أن هداك للحق، فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور ‏{‏وَكُنْ مّنَ الساجدين‏}‏ أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء‏.‏ وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وليس هذا موضع سجدة خلافاً لبعضهم‏.‏ وفي أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل‏:‏ افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيق الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جىء بالأمر بها كما ترى مغايراً للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص‏.‏ وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى‏.‏ وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏ وصح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها‏.‏ وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏واعبد رَبَّكَ‏}‏ دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه، قيل‏:‏ وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفاً تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم والإشعار بعلة الأمر بالعبادة ‏{‏حتى يَأْتِيَكَ اليقين‏}‏ أي الموت كما روي عن ابن عمر‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه، والمعنى دم على العبادة ما دمت حياً من غير إخلال بها لحظة، وقال ابن بحر‏:‏ اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى الله عليه وسلم، وأياً مّا كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود، وقالوا‏:‏ إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين‏.‏

وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء، أفترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتضح له ليلتئذٍ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود‏؟‏ الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان، وأيضاً لم يزل صلى الله عليه وسلم ما دام حياً آتياً بمراسم العبادة قائماً بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر حادة أفيقال‏:‏ إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين‏؟‏ لا أرى أحداً يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان‏.‏ نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97‏]‏ الخ كلاماً متضمناً شيئاً مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام، ففي «الكشف» أنه تعالى بعدما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97‏]‏ مؤكداً هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 98‏]‏ إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما، ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكُنْ مّنَ الساجدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 98‏]‏ دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه، وقوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏واعبد رَبَّكَ‏}‏ الخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبداً فما من طامة إلا وفوقها طامة‏:‏

إذا تغيبت بدا *** وإن بدا غيبني

وعن لسان هذا المقام ‏{‏رَّبّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ اه، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها، وأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97‏]‏ الخ في مقابلة ‏{‏وَقَالُواْ يا أَيُّهَا *الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ والله تعالى أعلم وأحكم‏.‏

ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات‏:‏ ما قالوه مما ملخصه ‏{‏نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49‏]‏ أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات ‏{‏وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 50‏]‏ وهو عذاب الاحتجاب والطرد عن الباب‏.‏

وقال ابن عطاء هذه الآية إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل‏:‏ أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عز وجل ولم يجر العذاب على ذلك السنن، وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه؛ وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه ‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 72‏]‏ قال النووي‏:‏ أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين، وقال القرشي‏:‏ هذا قسم بحياة الحبيب صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 75‏]‏ أي المتفرسين، وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر، وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطق به الحق بألسنة الخلق، وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وانطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيرى ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية، وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة، وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والاهتزاز وذلك سر محبته فإن الله تعالى إذا أراد فتح باب الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر فتفزع ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة، وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف، وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه، وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة، وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه؛ وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بأشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة‏.‏

وسئل الجنيل رضي الله تعالى عنه عن الفراسة فقال‏:‏ آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق، ولهم في ذلك عبارات أخر‏.‏

‏{‏فاصفح الصفح الجميل‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏ روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المالفة، وقيل‏:‏ الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الندم في قلبه ‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني‏}‏ وهي الصفات السبعة أعني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام، ومعنى كونها مثاني أنها ثمى وكرر ثبوتها له صلى الله عليه وسلم، فكانت له عليه الصلاة والسلام أولاً‏:‏ في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه، وثانياً‏:‏ في مقام البقاء بالوجود الحقاني، وقيل‏:‏ معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عز وجل ومواليدها، وجاء «لا زال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أجببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث ‏{‏والقرآن العظيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏ وهو عندهم‏:‏ الذات الجامع لجميع الصفات ‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏ إلى آخره‏.‏ قال بعضهم في ذلك غار الحق سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام أن يستحسن من الكون شيئاً ويعيره طرفه وأراد منه صلى الله عليه وسلم أن تكون أوقاته مصروفة إليه وحالاته موقوفة عليه وأنفاسه النفيسة حبيسة عنده، وكان صلى الله عليه وسلم كما أراد منه سبحانه ولذلك وقع في المحل الأعلى ‏{‏مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 98، 99‏]‏ قد مر عن الكشف ما فيه مقنع لمن أراد الإشارة من المسترشدين، هذا وأسأل الله سبحانه أن يحفظنا من سوء القضا ويمن علينا بالتوفيق إلى ما يحب ويرضى بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ما جرى في تفسير كتاب الله تعالى قلم‏.‏

‏[‏سورة النحل‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏ بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله‏.‏ وفي «البحر» في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال‏:‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92‏]‏ كان ذلك تنبيهاً على حشرهم يوم القيامة وسؤلهم عما فعلوه في الدنيا فقيل‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏ الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ وانظر كيف جاء في المتقدمة ‏{‏يَأْتِيَكَ‏}‏ بلفظ المضارع وفي المتأخرة ‏{‏أتى‏}‏ بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في «البحر» وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة، وعن ابن جريج تفسيره بنزول العذاب فقط فقال‏:‏ المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار، وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والقرائض، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً وهو كما ترى، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه قوله سبحانه فإنه لو وقع ما استعجل‏.‏ وهو الذي يميل إليه القلب، والضمير المنصوب في ‏{‏تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه، وقيل‏:‏ يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ وهو خلاف الظاهر، لكن قيل‏:‏ إن ذلك أوفق بما بعد، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير ‏{‏فَلا‏}‏ على صيغة نهي الغائب، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة، أما الأول‏:‏ فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه، وأما الثاني‏:‏ فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمها صيغة واحدة والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معاً غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل‏.‏

وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏ قال الكفار فيما بينهم‏:‏ أن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا‏:‏ ما نرى شيئاً فنزلت ‏{‏اقتربت لِلنَّاسِ حسابهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا‏:‏ يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناس رؤسهم فلما نزل ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ اطمأنوا ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه إن كادت لتسبقني» ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمأنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالاتيان هو الاتيان الإدعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائناً من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل‏.‏ نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود‏.‏

وبحث فيه من وجوه، أما أولاً‏:‏ فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلاً لاعده عاجلاً وسياق ما روى يدل على الأخير، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ أي لا تعدوه عاجلاً، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضاً منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم، وأما ثانياً‏:‏ فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل، وأما ثالثاً‏:‏ فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر، وأما رابعاً‏:‏ فلأن نفي دلالة ما روي على العموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس، وأما خامساً‏:‏ فلأن قوله‏:‏ بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلاً على عدم العموم فضلاً أن تكون واضحة، وقد عرفت ما في قوله‏:‏ وقد عرفت وأما سادساً‏:‏ فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ حيث قال‏:‏ أي الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر‏؟‏ وفي بعض الأبحاث نظر‏.‏

وقال بعض الفضلاء‏:‏ قد يقال‏:‏ إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال‏:‏ «لما نزلت ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ فسكنوا»‏.‏ وهذا أيضاً على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال‏:‏ إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخذاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ‏:‏ لما كان استعجالهم ذلك من من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحداً يحجزه عن إمضاء وعيده أو انجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات‏:‏ إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير‏:‏ أنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه وإخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتباره ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحاً له، وأيضاً فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولاً أظهر منه على هذا التقرير فافهم، ثم إن ‏{‏مَا‏}‏ تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ بتاء الخطاب على وفق ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ وقرأ باقي السبعة‏.‏ والأعرج‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ والحسن‏.‏ بياء الغيبة، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتاً وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضاً على قراءة ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين‏.‏ نعم في ذلك على قدير عموم الخطاب تغليبان على ماقيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم فـ يالخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك، وعلى قراءة ‏{‏يستعجلوه، ويشركون‏}‏ بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزّلُ الملائكة‏}‏ قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أو عدبه وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال في «الكشف»‏:‏ التحقيق أن قوله سبحانه ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكناً في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُنَزّلُ الملائكة‏}‏ الخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولاً ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائمون بالأمرين جميعاً فافهم‏.‏ وأخذ سيبويه منه أن جعل ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ حالاً من ضمير ‏{‏يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ لا يطابق المقام البتة انتهى‏.‏

وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في الجملة، ثانيهما‏:‏ مستأنفة وهو الظاهر، وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر، والتعبير بصيغه الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام ويسمى الواحد بالجمع كما قال الواحدي إذا كان رئيساً، وعند بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ مخففاً من الإنزال، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو بكر ينزل مشدداً مبنياً للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف، وأبو العالية والأعرج‏.‏ والمفضل عن عاصم ‏{‏تُنَزَّلَ‏}‏ بتاء لوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنياً للفاعل وقد حفف منه أحد التاءين وأصله تتنزل، وابن أبي عبلة ‏{‏نُنَزّلُ‏}‏ بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات ‏{‏بالروح‏}‏ أي الوحي كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن، وروى عن الضحاك‏.‏ والربيع بن أنس الاقتصار عليه، وأياماً كان فإطلاق ‏{‏الروح‏}‏ على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة، ووجه الشبه أن الوحي يحيى القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروج يكون قوام البدن، ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح، وهذا كما إذا قلت‏:‏ رأيت بحراً يغترف الناس به وشمساً يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس كأظفار المنية وليس غير كونه استعارة مصرحة، وجعل ذلك في الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك، والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو حال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح، وقول سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ بيان للروح المراد به الوحي، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى‏:‏

‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ لما قالوا‏:‏ من أن بينهما بوناً بعيداً لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبهاً به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ كما تبين به المجازية، ولو قيل‏:‏ يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان ‏{‏مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ وزان ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ وليس كل بيان مانعاً من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في «شرح التلخيص»‏.‏

وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من الروح على معنى حال كونه ناشئاً ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقاً بينزل و‏{‏مِنْ‏}‏ سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله، والأمر على هذا واحد الأوامر، وعلى ما قبله قيل‏:‏ فيه احتمالان‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن ‏{‏الروح‏}‏ هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الروح الامين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193‏]‏ وجعل الباء بمعنى مع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ‏{‏الروح‏}‏ خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وروى ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا‏.‏ وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روى عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح من تلك الأرواح ‏{‏على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك‏.‏

والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق، ويرد بها أيضاً على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم السلام قالوا‏:‏ الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق إليه فالرسل لا حاجة إليهم، وهذا جهل ظاهر، ولعمري أنه زندقة وإحاد، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور، ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه الخ فإن الرسل وسيلة إلى الله تعالى والوصول إليه عز وجل لا حجاب، وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه‏؟‏ وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون‏.‏

وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضاً نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك، فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم، وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقليين، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي، ولا نسلم أيضاً أنهم إن جاؤوا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم، ودليلان أقوى من دليل، ولا نسلم أيضاً أنهم إن جاؤا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه، على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله ‏{‏أَنْ أَنْذِرُواْ‏}‏ بدل من ‏{‏الروح‏}‏ على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم‏:‏ كتبت إليه بأن قم، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم‏.‏ وجوز ابن عطية‏.‏ وأبو البقاء‏.‏ وصاحب الغنيان كون ‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل‏:‏ يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا، وجوز الزمخشري ذلك وكون ‏{‏ءانٍ‏}‏ المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال‏:‏ والتقدير بأنه أنذروا أي بان الشأن أقول لكم أنذروا‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع، وفيه بحث، ففي «الكشف» أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة ههنا وفي يونس والناصبة في نوح وهي الأصل لقلة التقدير، وذلك لأن مقام المبالغة يقتضي إيثار المخففة، ولهذا جعل بدلاً والمبدل منه ما عرفت شأنه، وكذاك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو أن الشأن كذا، وأما في نوح فكلام ابتدائي، وجعلهم فائدة القول أن لا يقع الطلبي خبراً من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول‏:‏ كلامي اضرب زيداً انتهى‏.‏

وقرىء ‏{‏لينذروا‏}‏ والإنذار الإعلام كما قيل خلا أنه مختص بإعلام المحذور أي اعلموا ‏{‏أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ‏}‏ فالضمير للشان وهو من خلاف مقتضى الظاهر، وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة تقرير في الذهن، و‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها في موضع المفعول الثاني لأنذروا دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف، والمراد العموم أي أعلموا الناس أن الشان الخطير هذا، ووجه انباء مضمونه عن المحذور بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك، ولا يشترط تحقق المحذور كالاتصاف المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار، وإن ابيت إلا اشتراط فتحقق الاتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل كاف‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم، ومحصله على العبارتين التخويف، ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر المفعول الأول خاصاً و‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها في موضع المفعول الثاني بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير هذا، وذلك كما جوز تفسيره بالإعلام، وجعل المفعول الأول عاماً ولم يقدر جاراً في الثاني، وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه بإعلام المذور طارىء فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده ظاهراً غاية الظهور، وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه، وقد علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاماً، والأمر فيما إذا كان خاصاً بعد ذلك أظهر من أن يذكر‏.‏

وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه، وكأنه لهذا قيل‏:‏ إنه لم يأت بشيء يعتد به ‏{‏فاتقون‏}‏ جعله أبو السعود خطاباً للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له فيه الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها الاستعجال والاستهزاء انتهى‏.‏

وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني على ما مال إليه من اختصاص الخطاب السابق بالكفرة، وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعاً أيضاً إلى خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد، ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه وتعالى إذا كان واحداً لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحي به على معنى أعلموهم قولي أن الشأن لا إله إلانا فاتقون أو خوفوهم بذلك معللاً بأنه لو كان ذلك لقيل إن بالكسر لا بالفتح‏.‏

وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدر وإنما ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره، واختير أنه إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر، وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها على طريق الالتفات، ولا يخلو عن مناقشة فتأمل، والذي يميل إليه القلب أن المجموع داخل في حيز الانذار وهو مشتمل على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي هي أقصى كمال القوة العملية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من ذلك العالم، ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة عملية، وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا الله تعالى، وأشرف كمالات القوة العملية الاتيان بالأعمال الصالحة الواقية عن خزي يوم القيامة‏.‏

وقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا إله إِلا أَنَاْ‏}‏ على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاتقون‏}‏ للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى كمالاً مما يستند إلى القوة العملية، والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالاً نفسانياً، وله كمالات أخر هي كمالاته ابلدنية وقواه الحيوانية، وقد فصل ذلك في موضعه‏.‏ ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام فقال عز قائلاً‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏خُلِقَ السموات والارض بالحق‏}‏‏.‏

وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى في أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل واحد يكفي صارفاً للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدارة السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتى الرعاية والهداية، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واصبر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 127‏]‏ إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز؛ والمراد بالسموات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبساً بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد الألوهية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام؛ ولذا عقب هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏فتعالى‏}‏ بالفاء، و‏{‏مَا‏}‏ يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدىء ولا يعيد، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقاً، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر، وقرأ الكسائي ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ بالتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان‏}‏ أي هذا النوع غير الفرد الأول منه ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلاً ولا وضعاً ‏{‏فَإِذَا هُوَ‏}‏ بعد الخلق من ذلك ‏{‏خَصِيمٌ‏}‏ منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم، وهو صيغة مبالغة، وقال الواحدي‏:‏ بمعنى مخاصم، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر‏.‏

‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ مظهر للحجة لقن بها؛ وقيل‏:‏ المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل‏:‏ ‏{‏مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏ والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه‏:‏ اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله، وتقرير الأول أن يقال‏:‏ إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضى لها هو الفاعل الحكيم المختار، وإن كان الثاني قلنا‏:‏ إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطاً وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرى الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضى هو الفاعل المختار أيضاً جل شأنه وأيضاً إلى النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائماً مع إمكان غيره علمان أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم ولا يصح أن يقال‏:‏ إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه‏.‏

وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الام ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار، والثاني قيل‏:‏ انسب بمقام تعداد هنات الكفرة فانه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر‏.‏